أخر الأخبار

تشاد المستعمرة الفرنسية الأخيرة

بقلم : محمد صالح كبرو الرحال

إزداد الإهتمام الأوروبي بأفريقيا بشكل عام خلال القرن التاسع عشر، ما دفع فرنسا بالبحث عن الثروة في داخل مستوطناتها على الساحل الغربي لوسط أفريقيا وبإحتلالها لإفريقيا الوسطى مهدت للدخول إلى جنوب تشاد وإستطاعت ذلك بعد عامين من تمكنها من حكم من أفريقيا الوسطى .
في السنوات التالية توسّع الفرنسيون تدريجياً في شرق وشمال تشاد، وواجهوا مقاومة شديدة كما حدث أثناء حرب وداي في تيبستي وبوركو، وحسمت فرنسا المعركة لصالحها حيث احتلت آخر الأنظمة السياسية المستقلة في تشاد عام 1917، وهزمت آخر حركات التمرد المحلية بحلول عام 1920م ..
رغم توسعها شرقاً وشمالاً، لكنها تمكنت فقط من حكم الجنوب بشكل فعال، وقد تم إنشاء نظام استعماري فرنسي للإدارة المدنية بين مجموعة “قبائل السارا” الجنوبية وجيرانهم من الأراضي المستعمرة فرنسياً، وعلى عكس بقية تشاد حدث مستوى متواضع من التنمية الإقتصادية في الجنوب بسبب إدخال إنتاج القطن على نطاق واسع .

مزايا الدخل الجيد لمن اختارتهم فرنسا من الزعماء المحليين وتجنيدها لبعضهم في صفوف جنودها والمدارس والطرق فشلت في كسب التأييد الشعبي للفرنسيين في الجنوب، لإرتكاب المستعمر لمظالم كبيرة مثل العمالة القسرية (التي أودت بحياة الكثير) وإعادة التوطين في تجمعات تشبه القرى للعمل في الزراعة لإنتاج القطن الذي تشتريه فرنسا بأسعار منخفضة .
احتلت مستعمرة تشاد مرتبة قريبة من القاع في سلم الأولويات الفرنسي، فقد كانت أقل أهمية من مستعمرات شمال وغرب أو حتى وسط أفريقيا، وكانت نظرة المستعمر لتشاد على أنها مصدر للقطن الخام والعمالة غير المدربة لاستخدامها في المستعمرات الأكثر إنتاجية في الجنوب، لذا ارتبطت تشاد في بداية القرن العشرون بثلاث مستعمرات فرنسية في الجنوب، وكانت المستعمرات الأربع تدار معاً باسم أفريقيا الاستوائية الفرنسية تحت إشراف الحاكم العام الفرنسي .

في الداخل التشادي كانت سيطرة إنجمينا على المناطق النائية ضعيفة جداً قبل أن يتوصل عدد قليل من المسؤولين الفرنسيين مع سكان الصحراء إلى إتفاق أن تترك بموجبه الإدارة العسكرية الفرنسية في (منطقة فايا) الناس وشأنهم وترفع عن كاهلهم الجبايات المفروضة على الرعاة مقابل أن تظل مسارات القوافل آمنة نسبياً مع تحقيق الحد الأدنى من القانون والنظام .
وقع حدث في عام 1935 ظهرت آثاره خلال السبعينات والثمانينات حين تفاوضت فرنسا على تعديل الحدود مع إيطاليا التي كانت تستعمر ليبيا آنذاك، كان التفاوض ينص على أن يتم نقل الحدود الليبية التشادية على بعد حوالي مئة كيلومتر جنوبًا عبر ( قطاع أوزو ) ولاحقاً المفاوضات شكلت جزءاً من أساس مطالبة ليبيا بالمنطقة بعد عقود مما نتج عنه الحرب الليبية التشادية .

في 1958م شارك الناخبون في جميع أراضي المستعمرات الفرنسية بأفريقيا في إستفتاء على دستور لإستقلال أو إنشاء سلطة تشادية، ولأسباب سياسية وإقتصادية دعمت معظم الجماعات السياسية في تشاد الدستور الجديد، وصوتت جميعها لصالح قرار يدعو إلى أن تصبح تشاد جمهورية ذات حكم ذاتي داخل المستعمرات الفرنسية .
صوتت المستعمرات الفرنسية الثلاثة الأخرى في أفريقيا بالمثل، وفي نوفمبر 1958 تم إنهاء أفريقيا الاستوائية الفرنسية رسمياً، لكن استمر التنسيق بشأن قضايا إقتصادية مثل الجمارك والعملة الموحدة بين الأقاليم الأربعة من خلال اتفاقيات مكتوبة .
أيد بعض التشاديين إنشاء اتحاد فرنسي بدلاً عن الاستقلال لكن قوة المعارضة أسفرت عن استقلال سياسي على أساس منفصل لجميع الجمهوريات الأربع .

بعد انهيار التحالف الذي ينادي ببقاء الحكم الفرنسي بديلاً عن الاستقلال عاد الحزب التقدمي ( الداعي لبقاء المستعمر ) إلى السلطة، بقيادة تومبالباي وسرعان ما عزز الدعم السياسي الكافي لعزل المعارضة في مجموعة من القادة المسلمين المحافظين من وسط تشاد .

في عام 1962م شكلت مجموعة من الشماليين حركة ثورية بإسم جبهة التحرير الوطنية، كان أغلب قادتها من المسلمين، واندلعت الحرب بينها وبين الحكومة في منتصف الستينيات مما دعا حكومة تومبالباي لأن تستنجد بفرنسا عسكرياً، وبالمقابل بدأت الحركة الثورية بتلقي مساعدات عسكرية من ليبيا مما أتاح لليبيا الدخول في الصراع واحتلال منطقة ( شريط أو قطاع أوزو ) على حدود تشاد الشمالية في عام 1973م .

قُتل الرئيس تومبالباي عام 1975م على يد المعارضة وأصبح فيليكس مالوم رئيساً للنظام العسكري الجديد لتستمر الحرب إلى أن إستولى الثوار على نصف الجيش التشادي عام 1978م بعدها تشكلت حكومة جديدة بها عدد متساوي، يمثلون الشمال والجنوب وأصبح فيها حسين حبري رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع .

هرب الرئيس مالوم بعد عام من تشكيل الحكومة الجديدة بعدما لم تستطع حكومته حل مشاكل البلاد، لتتصارع على السلطة مجموعتان من الحركات الثورية تتبع إحداها لحبري .

انتصر كوكوني (الرئيس الجديد) على حبري بدعم ليبي عام 1980م، وظلت القوات الليبية في تشاد قبل أن تحل محلها قوات حفظ السلام الإفريقية التي فشلت في أن تمنع قوات حبري من الدخول ثانية إلى إنجمينا .

في يونيو 1982م أطاح حبري بحكومة كوكوني الذي هرب، كما انسحبت قوات حفظ السلام الإفريقية وصار حبري رئيساً، بعدها بعام أرسلت فرنسا قوات ومعدات عسكرية لدعم حكومة حبري، عندما إحتلت قوات كوكوني الذي عاد بدعم ليبي شمالي تشاد .

انسحبت القوات الليبية من كل تشاد عدا شريط أوزو، بعدما وافقت الدولتان على الهدنة في أواخر عام 1987م، لكن إستمر الصراع بينهما قائماً على ذلك الشريط حتى فصلت محكمة العدل النزاع لصالح تشاد، وأعيد الشريط في 1994م .

ظهرت مجموعة ثورية سمت نفسها (حركة الإنقاذ الوطنية) واستطاعت إسقاط حكومة حبري وقامت بتشكيل حكومة جديدة برئاسة إدريس ديبي، وقامت في 1993م بعقد مؤتمر ضم كافة الأحزاب والفعاليات السياسية لتشكيل حكومة مؤقتة من شأنها إقرار دستور ينظم حكم البلاد ويرتب لقيام إنتخابات .

جرت انتخابات برلمانية عام 1997م وظل إدريس ديبي رئيساً للبلاد وإستقرت تحت حكمه وعاد الفرنسيين الذين تخلوا عن حبري ليدعموا الرئيس الجديد قبل أن تتصاعد أعمال العنف من جديد وتتجدد الصراعات المسلحة بعد إكتشاف البترول عام 2004 م .

قبل شهر من الانتخابات الرئاسية 2006 م هاجم المتمردون العاصمة التشادية بغرض السيطرة عليها، وأسفرت المواجهات بينهم وبين الجيش التشادي عن مقتل المئات، في تحرك وصفه مراقبون بأنه ” تقدم مذهل للمعارضة المسلحة في تشاد ” ..

هذا التقدم أفشله البروتكول الأمني الموقع بين الفرنسيين وديبي، الذي يقضي بدفاع فرنسا عن السلطة القائمة في تشاد، طالما حافظ رأس السلطة على امتيازات فرنسا وتواجدها .
طوال حكم ديبي لتشاد كانت فرنسا حامية لسلطته، تمده بالتقارير الإستخباراتية عن تحركات المعارضة المسلحة التشادية التي تنطلق من بعض دول الجوار وتمده بعتاد حربي لمواجهة ذلك التهديد، ويكون سلاح الجو الفرنسي حاضراً لوضع نهاية للمعارضة في حال تقدمها نحو قصر الحكم .

دول الجوار التشادي كانت مساهمة بصورة كبيرة في تغيير أنظمة الحكم، خصوصاً دولتي ليبيا والسودان ولا زالت هاتين الدولتين تساهم بصورة كبيرة في الإستقرار أو عدم إستقرار نظام الحكم التشادي الذي تسنده فرنسا ليكون الإستقرار ضمان لمصالحها، في ذات الوقت حينما تشعر بعدم جدوى حماية النظام تبدأ بدعمه بتقارير إستخباراتية غير دقيقة وتترك الحكومة بلا غطاء في مواجهة المجموعات المسلحة الطامحة للحكم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى