جنوب كردفان.. قواسم مشتركة

 

لازالت جنوب كردفان مسرحاً غنياً بالموسيقى والغناء والفلكلور والتراث والرقص والاستعراض ومستودعاً كبيراً يضج بالحكايات والقصص والأساطير والأحاجي والروايات والأسبار والكجور والعادات والتقاليد ومخزناً للكنوز والثروات المعدنية والحيوانية والزراعية، عززها خصوبة التربة و تنوع مصادرها من طين وقيزان ورمال وقردود وفيافي وغابات وسفوح وتلال وجبال وسهول ووديان تؤهلها لأن تحتل مرتبة رفيعة في الانتاج والسياحة، وذلك في حال نجاح العملية السلمية الجارية الآن على كافة مستوياتها الأفقية والراسية.
لقد كانت جنوب كردفان ولوقت قريب أنموذجاً يحتفى به من خلال التعدد الاثني والثقافي والديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي وقد تساكنت في داخلها مئات القبائل تصاهرت وتزاوجت وأضافت لبعضها البعض للدرجة التي يصعب فيها أحياناً فرز الانسان الا من خلال لهجته أو رقصته أو تراثه بعد ان طرأت عليهم تغيرات جديدة تحمل ملامح الكل فتحت أبواباً عريضة للوحدة والتسامح والهوية المشتركة على مستوى الأرض واللون واللغة والدين والثقافة حتى صارت العربية لغة التخاطب والاسلام دين للأغلبية مع احتفاظ كل قبيلة بجزورها وتراثها ولهجتها المحلية كوسيلة للتواصل بين أفرادها وبما ان اللهجة العربية هي السائدة الا انها تختلف في طريقة نطقها من قبيلة إلى أخرى وتنقسم القبائل حسب موروثها الشعبي إلى نوبة وبقارة وأبالة وغنامة، وقد اشتهر النوبة بالكرنق والكيسا والكمبلا واشتهر البقارة بالنقارة والمردوم والدرملي كما اشتهر الأبالة بالجراري والتويا الحسيس واشتهرت مجموعة الغنامة بالدلوكة والربة وأم سلبونج والطمبرة وغيرها، مع وجود قواسم مشتركة بينهم جميعاً، وبالتامل في التراث والفلكلور من حيث المحتوى والمضمون نجد ان هنالك تشابهاً في تصميم الأزياء و الأكسسوار حيث يتنافسون فيما بينهم في كيفية استخدام السكسك والتمايم والريش والكشاكيش والعاج والصفافير ويظهر ذلك في رقصة النقارة والكرنق والمردوم والكيسا والكمبلة وغيرها، كما يشتركون في معظم الألات الشعبية كالنقارة والتمبل والبخسة والدلوكة والبوق والزمبارة والربابة (الطمبور) وهي ألة شعبية شائعة وتختلف تسميتها من منطقه لأخرى وتشترك كل القبائل في الدوزنة العامة المنتشرة في جميع أنحاء السودان مع اختلافهم أحياناً في طريقة ترتيب الأوتار (الاصابع) من قبيلة لأخرى وهي متوافقة مع المقام الموسيقي الخماسي فيعزف عليها النوبة أغاني الكرنق والغنامة أغاني السيرة والبقارة أغاني بت التوم ويتميز البقارة بدوزنة أخرى، خاصة بهم وهي سداسية متوافقة مع طبيعة ألحانهم العربية ويسمونها بالحازمية أو المسيراوية، وكما يسمون الربابه بـ”أم بري بري” وتعتبر النقارة ألة محورية منتشرة بكثرة ولها فوائدها المتعددة عند الفزع والمسار والفرح والحزن والرقص واللعب والغناء ولها مشتقاتها المساندة كالتمبل والصفيح وغيره وتختلف الالحان من مجموعة لأخرى حسب خصوصية اللغة والتنغيم (التمتمة)مع تشابه الجميع في أسلوب التأليف.. حيث اشتهر النوبة والأبالة والغنامة بالمقام الموسيقي الخماسي وهو منتشر في افريقيا، كما اشتهر البقارة بالمقام الموسيقي السباعي وهو منتشر في الدول العربية.
ويشترك معظم مواطني جنوب كردفان في حرفتي الرعي والزراعة مع توافقهم التام حول الأحكام التي تنظم العلاقة بين الراعي والمزارع وهي توافقية وتكاملية تسهم في الانتاج و تحفظ حقوق الطرفين بوضع علامات للمرحال في كل عام وعبر خبراء محليين مع تخصيص مناطق للرعي المشاع والعمل بنظام الزريبة بان تحجز فيها المواشي المعتدية وتسلم لصاحبها وفق شروط معينة وبعد ان يدفع قيمه التلف عبر لجنة فنية يتم تعيينها من قبل العمدة او الشيخ .. كما تشترك معظم قبائل جنوب كردفان في “الصراع” وهو نوع من الرياضة يمارس بغرض الترفيه وبناء الأجسام ويعتبر من أهم ركائز السلام ويمارس عند انتهاء المراحل الأولى من الزراعة وفي مواسم الحصاد (الدرت) ويتجمع المواطنين من كل صوب وحدب لتشجيع فرسانهم وله طقوس وعادات وسبارة وحكامات تختلف أغانيهن من قبيلة لأخر.
ويمتلك الاقليم سجلاً وطنياً حافلاً بالانجازات والتضحيات فقد شاركت كل القبائل في نصرة الثورة المهدية، كما شارك البقارة في ثورات النوبة ضد الانجليز كالفكي علي الميراوي في كادقلي والسلطان عجبنا في الدلنج مع تجاهل المؤخرين لذلك ولأشياء في نفس يعقوب برزت تجلياتها اليوم على الواقع المزري الذي يعيشه سكان جنوب كردفان من قلق وتوتر وسرقة ونهب وخصومة ونزاع بين مجتمعات كانت تصدر الخير والمحبة والتقاليد والأعراف لبقية الاقاليم.. فما نشهده من اقتتال ما هو الا نتاج لجملة من التراكمات منها الحرب وافرازاتها الجهل والفقر والمرض والنهب والسرقة والتفلت وانتشار السلاح وغياب الوازع الديني وضعف هيبة الدولة وسلطانها، بالاضافة للسياسات الخاطئة التي انتهجتها كل من الانقاذ والحركة الشعبية، فالأولى استخدمت المواطنين كدروع بشرية والثانية ينقصها النقاء الثوري، فكان من الأحرى ليوسف كوة ورفاقه ان يسلكوا مسلك أجدادهم علي الميراوي والسلطان عجبنا الذين احتموا بالعرب فوجدو النصر والمؤازرة ولكنهم (الحلو ورفاقه) عوضاً عن ذلك منحوا نظام البشير فرصة على طبق من ذهب، وما بين هذا وذاك عانى السكان وتعقدت حياتهم وتدهورت علاقاتهم وضاعت أحلامهم واختطلت أوراقهم ولاح في الأفق شبه الانهيار.. وبنائاً على ما تقدم من سرد أرى ان توقيع السلام بين الحكومة والحركة ليس خاتمة المطاف ولابد من اعادة الحياة لمجاريها بان تتبنى الحكومة الانتقالية حراكاً سلمياً داخلياً وتفتح الحركة الشعبية، أبواباً للتواصل مع البقارة وبقية الكيانات المناهضة لمشروعها، وان لم يحدث ذلك فعلى الدنيا السلام.. اللهم اني قد بلغت فاشهد.
مليح يعقوب حماد محمد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى