الادارة الاهلية والافندية صراع البقاء(١ – ٢)

محمد عبدالسلام

إستمرت الحرب الاهلية في لبنان حوالي الخمسة عشر عاماً حتى توصلت الطوائف المتقاتلة في لبنان لاتفاق سلام ضمن الوصول لصيغة توافق قُسمت بموجبه السلطة بصورة تشاركية ضمن تمثيل اي طائفة في مؤسسات الدولة حسب وزنها وتأثيرها عُرفت هذه الصيغة بالديمقراطية اللبنانية او الديمقراطية التوافقية وهي عملية تبيئة للديمقراطية حسب الوضع الطائفي في الدولة اللبنانية .

في السودان بسبب تشكل الدولة الخاطئ حيث الباس ثوب الدولة الحديثة لمجتمعات معظمها لم يصل لمرحلة الدولة بعد ظلت الاشكالات قائمة في البلاد ، يحدثنا التاريخ انه في زمن الممالك والسلطنات كانت تدار البلاد بطريقة لامركزية حيث يحتفظ شيوخ ونظار القبائل بوضع شبه مستقل مقابل سيادة إسمية للسلطنة ، وعند قدوم المستعمر التركي والذي جاء وفي جعبته الدولة الحديثة بمؤسساتها مما جعله يلاقي صعوبة كبيرة في تأسيس دولة بنية وعي مجتمعها قبلي عشائري مما جعله يستعين بشيوخ القبائل ونظارها في بسط هيبة الدولة وتحصيل الرسوم والجبايات جاءت المهدية وفرضت نظام مركزي قابض على البلاد فقوبلت بثورات وانتفاضات متوالية من عدد من القبائل خصوصاً في فترة الخليفة عبدالله والذي قابل تلك الانتفاضات بعنف مفرط فقتل عدد من قيادات القبائل مثل التوم فضل الله سالم ناظر الكبابيش ومادبو ناظر الرزيقات وابوروف ناظر رفاعة وعبدالله ودسعد ناظر الجعليين وسجن عدد اخر منهم في سجن الساير بامدرمان مثل الشيخ ابوسن ناظر الشكرية ، هذا العداء الذي اظهرته حكومة المهدية للادارة الاهلية كان احد العوامل الداخلية التي عجلت برحيلها وجعلت عدد من القبائل تتعاون مع حملة كتشنر للقضاء على حكم الخليفة عبدالله .

عندما اتى الانجليز للبلاد كانت لديهم رؤية جيدة للاوضاع السياسية والاجتماعية بالبلاد لذا فإن السير ريجنالد ونجت الحاكم العام الذي وضع النظام الاداري في البلاد قد ابتدع وظيفة المفتش العام وجعل على رأسها سلاتين باشا وكانت مهمة سلاتين هي التواصل مع قيادات الادارة الاهلية لتثبيت اركان الحكم الجديد ونجح ايما نجاح في ذلك فقد اعطى الانجيز النياشين والاوسمة لعدد من القيادات القبلية والدينية وجعلوهم مشاركين في حكم البلاد مما جعلهم ادوات لتحقيق اهداف الانجليز في مجتمعاتهم وقبائلهم بل اعلنوا ولائهم المطلق للحكومة البريطانية وتجلى ذلك في وفد ضم قيادات اهلية ودينية سافر للندن مهنئاً بالانتصار في الحرب العالمية الأولى واقسم يمين الولاء امام الملك جورج .

ساعدت الادارة الاهلية بريطانيا في قمع الانتفاضات المعادية للمستعمر مما جعل هناك عداء بينهم وبين طبقة الافندية والتي اخذت تنمو تدريجياً وصل الامر في مرات عدة لمرحلة الصدام خصوصاً بعد تكوين مؤتمر الخريجين العام في نهاية الثلاثينات حيث ينظر الافندية للقيادات الاهلية بإعتبارهم جماعات رجعية ومتخابرة مع المستعمر فيما ينظر القيادات الاهلية والدينية للافندية بإعتبارهم ثلة من المتمردين على تقاليد مجتمعاتهم وليس لديهم اي وزن اجتماعي .

عندما قام مؤتمر الخريجين بارسال خطاب للسكرتير الاداري السير دوغلاس نيوبولد ارسل السكرتير الاداري الخطاب للمجلس الاستشاري لشمال السودان والذي يتكون من قيادات الادارة الاهلية الذين اكدوا للسكرتير الاداري انا هاوؤلا اشخاص بلا وزن ولايمثلون الا انفسهم وعلى هدى حديث المجلس الاستشاري كان رد السكرتير الاداري والذي تضمن نفس النقاط بموجب هذا الرد انقسم المؤتمر الى استقلاليين واتحاديين عندما أسس الاستقلاليين حزب الامة لم يجدوا بُد من التحالف مع طائفة دينية يدين لها عدد كبير من قيادات الادارة الاهلية وكذلك الاتحاديين تحالفوا مع طائفة موازية يدين لها الجزء الاخر من البلاد لذا فإن البرلمان الذي جاء بعد اتفاقية الحكم الذاتي في العام ١٩٥٣م كان يعج بقيادات الادارة الاهلية والذين تم ترشيحهم من قبل حزب الامة والوطني الاتحادي هذا الوضع احدث صراعات كبيرة داخل الحزبين بين الافندية والقيادات الاهلية ادت هذه الصراعات لانشقاق الوطني الاتحادي لحزبين ومهدت هذه الصراعات لانقلاب عبود ١٩٥٨م بمساندة احد اطرف الصراع داخل حزب الامة .

بعد اكتوبر اصبح للافندية الكعب العالي وابتعدت القيادات الاهلية شيئاً ما احدث شرخاً كبيراً بين المؤسسات المركزية والاقاليم رغم ان مجلس رأس الدولة (مجلس السيادة) يضم خمسة اعضاء يمثلون اقاليم السودان الخمسة ولكن كان الاعضاء جميعاً من الافندية ، هذا الشرخ تم استغلاله من قبل بعض الافندية والذين تعاونوا مع الادارة الاهلية واستطاعوا الوصول للسلطة التشريعية بسبب الرؤية المركزية للاحزاب الخرطومية فظهر مؤتمر البجا بشرق السودان واتحاد جبال النوبة وجبهة نهضة دارفور وحزب سانو ، ولما كان قيادات هذه التنظيمات المناطقية هم من الافندية فقد انضم اغلبهم للقوى السياسية ونسوا قضية اقاليمهم مما جعلهم في صراع مرة أخرى مع قياداتهم الاهلية في الأقاليم والتي كانت سبباً في وصولهم للبرلمان وبالتالي تدهور شعبيتهم في مجتمعاتهم المحلية .

حاولت حكومة مايو كأحد التجليات العنيفة لعقل الافندية حل الادارة الاهلية كمعبر عن الرجعية والاقطاع بحكم ان النظام نظام تقدمي ولايقبل بالعقليات الرجعية، لذلك فإن اغلب الحركات المناوئة لمايو كانت بدعم من عدد من قيادات الادارة الاهلية خصوصاً عملية الجبهة الوطنية عام ٧٦م كذلك فإن عدد من النظار قد ارسلو شباب قبائلهم الى الجزيرة ابا في العام ٧٠م لفك الحصار الذي ضربه النظام المايوي على السيد الهادي المهدي وساهمت قيادات اهلية بتهريب السيد الهادي حتى الحدود الإثيوبية حتى تم القبض عليه وإغتياله هناك.

بعد الحكومة الديمقراطية الثالثة اتى عنف الافندية الجديد ممثلاً في الانقاذ والتي حاولت استمالة الادارة الاهلية والاستفادة من اخطاء مايو وبعد ان استمالتهم جعلتهم اداة طيعة في يدها وارجعت اليهم بعض سلطاتهم وهيبتهم مما ثبت اركان النظام لفترة طويلة وشكلت الادارة الاهلية سد منيع للانقاذ ضد المعارضة مما جعل الصراع حول السلطة هو صراع صفوي (صراع افندية) مقابل وقوف الادارة الاهلية في صف افندية الانقاذ وجعل افندية المعارضة تخوض المعركة ضد الطرفين .

ثورة ديسمبر كان ثورة جيل جديد ضد الافندية وضد الادارة الاهلية جيل متمرد على كل الارث القديم للدولة السودانية بعد إزاحة نظام افندية الانقاذ تربع افندية المعارضة على سدة السلطة واصبح صراعهم قائماً مع الادارة الاهلية التي كانت تقف مع الانقاذ وفشل افندية المعارضة في استمالتهم حتى بعد زوال الانقاذ فيما اصبح جيل الثورة متفرجاً وغير قادر على احداث اي فعل فيما يجري .

مما تقدم فإن اي حل جزري للصراع الذي اقعد البلاد لايمكن أن يحدث الا بانتهاء صراع الافندية والادارة الاهلية ، جيل الثورة مفترض ان يعي بهذه التعقيدات رغم انه اقرب للافندية منه للادارة الاهلية رغم ان الادارة الاهلية هي طرف لا يمكن تجاوزه ولكن في نفس الوقت هو خطر على الثورة بسبب استغلال الفلول لقياداته فالثورة لم تعطي اي تطمينات لهذه الكيانات الاجتماعية بل كان المكون العسكري اوعى من المكون المدني في تعامله معهم في وجهة نظري الحل لهذه المعضلة هو ابتداع نمط ديمقراطية سودانية (تعددية) تضمن تمثيل كل الكيانات الاجتماعية في هرم السلطة وان لايعتبر الافندية انفسهم اوصياء على السودانيين حيث مازالت مجتمعات كثيرة في البلاد لم تصل لوعي الدولة بعد .
فمالم تعي كل الكيانات الاثنية والثقافية بالوعي الوطني فإن اي عملية لفرض ذلك هي عملية فوقية ستجابه بمعارضة شرسة من مجتمعات عديدة وستكون سبباً في تأخر بناء الدولة ونكستها وهذه اس الاشكالات التي عانينا منها لذا فإن صراع الحكومة الانتقالية الحالية مع عدد من قيادات الادارة الاهلية هو صراع وجود للادارة الاهلية واي شخص وجوده مهدد سيقاتل لاخر رمق ، لم تناصب الادارة الاهلية الانقاذ العداء لانها قدمت لها تطمينات محددة ناصبت الادارة الاهلية الثورة العداء لانها هددت وجودها وخلقت قيادات بديلة في مجتمعات تعتبرها حكراً .

 

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى