الى قيادة الحزب الشيوعي: هل يحتاج الوضع الى درس عصر؟

دعاش

علاءالدين بابكر

من السهل ان تقف على الرصيف و ان تنتقد الذين يعملون لإصلاح ما افسدته الدكتاتورية. و من الصعب على الحزب الشيوعي السوداني ان يعمل مع منظومة شعبية لا تتفق معه في الايدلوجيا، و بالتجربة تجد قيادة الشيوعي صعوبة في التعامل مع الاخر و مع التنوع الايدلوجي.
خرج علينا الناطق الرسمي للحزب الشيوعي، و صرح على اثر التوقيع على اعلان برنامج و هيكلة الحرية و التغيير، بان الاعلان عبارة عن (تكرار للفشل)، او ما معناه.

بعد ان تكلست الفكرة، و اصابتها اللبرنة(من الليبرالية)، مازال الافق السياسي منغلق عن ابتكار تحليل علمي جدلي، و اصبح ينظر إلى تطورات الأحداث و ينتظر مآلاتها، او يتفاجأ لها، فالواضح انه ليس بمقدوره ان يتكهن بتلك النتائج، او حتى يستنتجها وفق التحليل المنطقي.

فشلت قيادة الشيوعي في التعايش مع منظومة قوى اعلان الحرية و التغيير، التي كان من المؤسسين لها، و في صياغة برامجها، و في هيكلة منظومتها، لكنه لم يكن يدرك تحديات و عقبات، العمل ضمن هكذا منظومة، كما انه لم يكن يدرك فرص نجاحات التحول الديمقراطي من خلال توحيد هذه الفسيفساء السياسية. ان منظومة تحالف قوى اعلان الحرية و التغيير ليست شئ فوق النقد، و ليست مبراة من العيوب و الأخطاء، بل على العكس من ذلك تماما. و لكنه تحالف فريد من نوعه، هو أول تجربة سودانية، برغم اختلاف تياراته الفكرية الا انه نجح في التوافق على برنامج لانجاح التحول الديمقراطي. ان قوى اعلان الحرية و التغيير بكافة اخفاقاتها و نجاحاتها هي نتاج عقلية سودانية، تجتهد وفق معطيات الواقع إن تساعد في الانتصار على الواقع و ظروفه و ان تجعل شعارات التحول أمرا ممكنا، قد تكون غير مكتملة، و لكنها أكدت انها منفتحة نحو التطور، و لا تستنكف التعاون او استيعاب العناصر و العوامل المتجددة في المشهد السياسي السوداني.

ليس غريبا على الحزب الشيوعي هذا المنحى في التعاطي مع الشأن السياسي السوداني، و لا موقفه من اجتهادات قوى اعلان الحرية و التغيير، فالتاريخ لم يشهد للحزب الشيوعي سوى النزوع نحو التفرد، و رفض العمل الجماعي و الجبهوي، و لا يضع أولويات التحول الديمقراطي ضمن أولوياته السياسية. ان الذي يفشل في ان يستوعب، و يتعاطى مع التنوع السياسي و الاجتماعي و الفكري المبزول في الساحة السياسة، فهو بالضرورة مصاب بالعمى السياسي، و يفتقد لأي منهج معقول لقراءة متطلبات التحول الديمقراطي.

لقد انتقلنا بعد ابريل ٢٠١٩ الى واقع سياسي جديد و دخلت فيه المنظومات السياسية في تحالفات انتقالية، تستوعب ظروف الانتقال الديمقراطي، من بين ذلك كان التوقيع على الوثيقة السياسية مع المجلس العسكري الانتقالي. هذا التطور من المهم النظر اليه بعين واسعة، و على الحزب الشيوعي ان يستوعب انه جزء من هذا المشهد، و ان الحزب الشيوعي لا يمكن هذا المشهد، و لكنه يستطيع أن يؤثر عليه ايجابا.

من غرائب الممارسة الشيوعية، انه لم يطق التعايش مع قوى اعلان الحرية و التغيير، و مع رفاق النضال و السجون في قوى الإجماع الوطني، و يعلن هجرته من تلك المكونات، و يسعى في اليوم التالي لتكوين تحالف جديد، مع الحركة الشعبية فصيل الحلو و بعض الاجسام المطلبية، انها تماما كالمثل القائل (تمخض الفيل فولد فارا ). ما الذي سيجعل التحالف الجديد أنجح و لماذا إهدار الوقت و الجهد و الفكر ؟ ما هو المطلوب و ما الذي يريد تحقيقه الشيوعي بعيدا من قوى اعلان الحرية و التغيير؟

تتغير الأجندة السياسية، و بالتالي أدوات واساليب العمل السياسي، بتغير الواقع السياسي و تغير الفاعلين فيه. لكن من غير العلمي، أن يستصحب الشيوعي ذات الأجندة و ذات أساليب العمل التي ظل يعمل وفقها في زمن الدكتاتورية ليقوم بتطبيقها في ظل انفتاح الافق السياسي و انتهاء الدكتاتورية السياسية. يقول البعض (ان الشيوعي لا يستطيع أن يغادر عقلية المعارض!!!) لذا هاجر ذات ليلة الى الحلو ليبني معه معارضة جديدة، و يؤلبه على حكومة التحول الديمقراطي.

هل يظن الحزب الشيوعي ان على منظومة العمل السياسي ان تستجيب، بالنقطة و الشولة، على رؤاه و مقترحاته، حتى يقبل ان يعمل ضمن تحالف عريض لحماية الديمقراطية من الانتكاس؟ اذا يفكر قيادة الشيوعي بهذه الصورة!! فهذه نرجسيه سياسية و(شعر ما عندو ليه رقبة).

لقد صار من ابجديات العمل في التحالفات السياسية، التوافق على المشتركات، و النأي عن الاختلافات، و ان ترى في حليفك (الجانب الملئ من الكوب). و من ضمن ابجديات ما عرفه الناس في السياسة السودانية، انه لنجاح اي خطة سياسية يجب ادراك الفاعلين الأساسيين، و المؤثرين، و بالتالي العمل على الحد من خطورتهم اذا كانت فيهم خطورة، و تحفيزهم على انفاذ ماهو لصالح الوطن و شعبه بقدر ما هو ممكن. إنكار واقع الحال و التصرف وفق رؤية احادية لا يفيد الحزب الشيوعي و لا مستقبله السياسي، كما أنه بالضرورة لا يفيد مشروع التحول الديمقراطي. انه يربك المشهد و يفتح الباب للارتداد على التحول الديمقراطي، و يضع الحزب كله في موقف متناقض مع قوى الثورة.

فقد الحزب الشيوعي فعاليته الايجابية خلال الفترة الانتقالية، و اصبح يعمل وفق سياسة ( انا اعارض اذن انا شيوعي) و في الوقت الذي ابواب الدولة كلها مفتوحة على مصرعيها للعطاء و تبادل الافكار و الخبرات لانجاح التحول الديمقراطي، لقد حرم التحول الديمقراطي فرصة الاستقرار السياسي، و فتح المجال لاضعاف مكونات الحكومة و الحاضنة السياسية للحكومة و يبدو أن ذلك ما ظل يتمناه، ليعود للناس و يقول لهم بابتسامة المنتصر (قبيييل شن قلنا!!!؟).

الشيوعي يرى اخفاقات قوى اعلان الحرية و التغيير و عجز الحكومة الانتقالية، و لا يرى المخاطر التي يوفرها من خلال تحشيد القوى المناهضة للحكومة الانتقالية و تشجيعها النيل من مسارات التحول الديمقراطي. ان هذا المسلك خطير للغاية، و يجب مجابهته بصرامة، من زاوية تهديده لمكتسبات الثورة، و كذلك خطير على مستقبل الحزب الشيوعي و علاقته مع القوى السياسية الوطنية و الشعب.

ان الوقوف على الرصيف و (قذف الحكومة الانتقالية و قوى الاعلان الحرية و التغيير) بالحجارة، لن يجعل من الحزب الشيوعي حزب ثوريا، انما يجعله من العاجزين عن أحداث التغيير، فالتغيير يحتاج رؤية علمية، و قيادة ميدانية مبتكرة و فذة تتعامل مع التحولات بوعي و استيعاب. على عكس الفكر الرجعي الذي يقوم على اعتماد الصيغ الجاهزة و المعلبة، الذي يعجز عن اعطاء إجابات موضوعية عن الراهن و المستقبل، و هنا يمكن تصنيف سلوك الحزب الشيوعي، بالمنهج الرجعي، حين يتعاطى مع مقتضيات الراهن السياسي في السودان.

اظن ان سياسة الحزب الشيوعي تجد هوى و احتفال كبير عند القوى المناهضة للثورة و للتغيير، و الحزب الشيوعي يدرك ذلك بالضرورة، و بالتالي اصبحت الآلة الاعلامية للحزب الشيوعي تنسجم مع الآلة الاعلامية التي تبثها مؤسسات الدولة العميقة و الأجهزة الأمنية و اعداء الثورة فكل تلك تتجمع و تنطلق من شعار (إسقاط الحكومة الانتقالية) الذي ينادي به الحزب الشيوعي و يعمل عليه.

ان نضالات الشيوعيين طيلة عهد الدكتاتورية كانت تعطي الانطباع بان الحزب الشيوعي لو وجد كوة من الحرية، سيسعى مع غيره لتوسيع تلك الكوة، و لم يكن من المتوقع منه ان يسعى لإغلاق تلك الكوة، لأنه يدعي بانه لا يراها بسبب عمي ليلي أصابه!!.

بهذا السلوك و هذا الاتجاه، نجد ان الحزب الشيوعي مثلما فشل في التعايش مع التحالفات الوطنية الراهنة التي تعمل لصالح انجاح التحول الديمقراطي، لكونه حزب غير مرن في التعاطي مع الواقع، فإنه ايضا فشل في استغلال فضاء الحريات لصالح برامج جماهير الشعب الكادحة، و يغامر بمستقبل البلاد و يشارك في إجهاض تجربة التحول الديمقراطي التي ناضل الشعب من أجلها على مدى جيل كامل، و مازالت التجربة في اضعف حالاتها بسبب جهود الدولة العميقة و سياسة الحزب الشيوعي.

ان اعادة تنظيم قوى اعلان الحرية و التغيير، ظل مطلبا شعبيا، و حكوميا، و لكن التصورات حول اعادة التنظيم لم تكن واضحة و لم يكن متفق عليها. الا انها كانت ضرورة نضالية، و جاءت بالنص في كل المبادرات الصادقة، من بينها مبادرة جامعة الخرطوم، و مبادرة المهندسين، و اخيرا مبادرة رئيس الوزراء.

نجحت قيادة قوي اعلان الحرية و التغيير من انجاز ذلك، و ليس من الضروري ان يرضى عنها الحزب الشيوعي او يتفق معها فهو من تلقاء نفسه (أغلق الباب على نفسه و طفق يندب واقعه).

ما توصلت اليه قوى اعلان الحرية و التغيير ليس هو سدرة المنتهى، و انما هي محاولات للتجاوب مع مقتضيات الواقع، و التعامل بمسؤولية مع ذاك الواقع، بعيد عن الذاتية و الأنانية السياسية. من هم داخل اعلان الحرية و التغيير لا يمثلون الكمال و قمة الثورية، و ليس بالضرورة من هم خارجها (خونة و عملاء). و لكن أينما ما كان موقع الحزب الشيوعي او غيره، عليه ان يستحضر المسئولية التاريخية التي تتطلبها الحالة التي تمر بها الثورة. ان تحقيق الديمقراطية و السلام و التنمية ليست قرار و انما مسيرة، فيها ما فيها من تحديات، و لكن الضمانة للنجاح تكمن في تعاضد الجهود و الوحدة النضالية، و هذا ما استعصى على الحزب الشيوعي ان يدركه بسبب غرقه في لجة الذاتية و النرجسية و فقدانه للحساسية تجاه مطلوبات الثورة. ان التحول الديمقراطي، و من واقع انه عملية و ليس قرار، لن يصل لغاياته بالتمنيات و لكن بالعمل. و دائما هناك من يعملون بجهد و مثابرة و يحتملون لغة الاستهزاء و النقد السالب، و من الممكن ان يكون هذا هو الوضع الذي تعيشه قيادة اعلان الحرية و التغيير. و هناك يقف الحزب الشيوعي مع من يتلقف اخطاء و هفوات حكومة الثورة و يشعل بها غضب الناس انتصار لذاته.

بهذا التزمت الاصولي الجامد عزلت قيادة الشيوعي الحزب ،وتركته فريسه التحالف العلني او المستتر وبالنتيجة مع قوي الردة والفلول. فخلق التناقض الكبير، وعمق الصراعات في داخله، واضعف فعاليته السياسية، بالمقابل اضعف قوي الحرية والتغيير ، و عمل على تأزيم المشهد السياسي لصالح قوى الردة. وفات على قيادته ان احدي ضرورات الانتقال وفق التجربة السودانية التوافق الوطني ،لا الميل الدائم للتفرد وتغليب ما هو شيوعي علي المصلحة الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى