الجيش الوطني و تحديات الإنتقال الديمقراطي

دكتور محمد الزين محمد
محامي و خبير إستراتيجي

لا يختلف إثنان بأن الاوضاع الان في البلاد متأزمة لضعف الحكومة الانتقالية المتشاكس مكوناتها كما قال السيد رئيس الوزراء في مبادرته “الطريق الى الامام”، و أخطر ما قاله: ( أن هذا التشاكس لا يؤدي الى تهديد الفترة الانتقالية وحدها بل يهدد وجود السودان نفسه). ونرى أن رسالة رئيس الوزراء ليس لعامة الشعب فقط بل رسالة خاصة للجيش السوداني وفي أهم مرتكزات توجه المؤسسة العسكرية للفترة الانتقالية و مابعدها في التحول الديمقراطي، والتي تتمثل في مايلي:
اولا: إعادة تحديد ولاية الجيش السوداني ودوره في قطاع الأمن والدفاع، ومن جانب آخر ربط الجيش بحركة المجتمعات التقليدية و الإنتقالية نحو المجتمع الحديث (الذي يلتزم بالدستور والقانون والمؤسسات القومية لا القبلية ولا الجهوية)، و كذلك المشاركة في التنمية وتطوير البنى التحتية وحماية البيئة، وقد يختلف البعض لما أكتبه اذا ما قارن وضع السودان ببلدان أخرى، ولكن لكل بلد بصمة خاصة مقرؤنة بطبيعته وتطوره المجتمعي و إرثه التاريخي والثقافي وأشواق وطموحات شعبه، و لكننا دائما نفكر خارج الصندوق و التعمق في خصوصية السودان وشعبه و ظروفه التاريخية التي تحتم علينا أن نجد مخرجا آمنا لتحقيق سلطة الشعب بكافه مكوناتها و مؤسساتها.
ثانيا: النأي من الصراعات السياسية والاختراقات الحزبية، ومن جانب آخر أهمية توفير بيئة سياسية شفافة وتعاونية لمتابعة دور الجيش في عملية الانتقال والتحول الديمقراطي ، وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية لسنة 2019م، وذلك من خلال المشاركة التشريعية القومية في قضايا الامن و الدفاع والتي تقوم على توطيد العلاقات المدنية-العسكرية نحو بناء الدولة المدنية، (دولة القانون والمؤسسات) وهذا لا يتحقق الا من خلال التوافق والحوار الذي يعزز عملية الانتقال الديمقراطي وليس الهيمنة الحزبية على مؤسسات الدولة و محاولة السيطرة الحزبية ايضا على المؤسسات العسكرية والامنية.
ثالثا: إضفاء الطابع المهني والعقيدة العسكرية الوطنية، وما نقصده هو البناء المهني للجيش أسس علمية و إحترافية و قومية المنشأة، والاستفادة من أرث الجيش السوداني عبر العقود الماضية، ونضيف الي ذلك أن عملية إصلاح الاجهزة العسكرية هي من إختصاص ومهام المؤسسة العسكرية حسب ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، وبالتالي المطلوب الان هو جيش مهني قومي ولكي يتحقق ذلك لابد مجموعة او حزمة من التدابير والاجراءات والمبادئ العسكرية والاجتماعية و الاقتصادية والثقافية والقانونية والإدارية، و أيضا تحديد السياسات العامة والاتجاهات الرئيسية لتطوير المؤسسة العسكرية وتجهيزها للدفاع عن الدولة تجاة التهديدات والتحديات الداخلية والخارجية المحتملة.
من الملاحظ أيضا و ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة اتجاة بعض الاحزاب السياسية للهيمنة على مفاصل الدولة في الخدمة المدنية، والسعى كذلك للهيمنة على المؤسسات العسكرية والامنية دون وعيها بمخاطر ذلك الاختراق، و ترويج سلعة تفكيك الجيش الوطني وبناء جيش جديد على نسق التجربة الافغانية -كلمة باطل أريد بها باطل – وايضا دون وعي بمآلات ما حدث في أفغانستان في الشهر الماضي وفق ما ذكرته صحيفة “نيويورك تايمز” تحت عنوان: (( الجيش الأفغاني بني على مدى 20 عاما.. كيف انهار بهذه السرعة؟)) حيث قالت الصحيفة في تقريرها: ( إن التقدم السريع لمقاتلي طالبان في أفغانستان يعكس فشل جهود الولايات المتحدة في تحويل الجيش الأفغاني إلى قوة قتالية قوية ومستقلة، في ظل تنامي الشعور بين عناصر الجيش بالخذلان نحو قادة البلاد الذين يفتقرون إلى الكفاءة).وأكدت الصحيفة “نيويورك تايمز” أن هذا الانهيار الذي يشهده الجيش الأفغاني حدث على الرغم من إنفاق الولايات المتحدة أكثر من 83 مليار دولار في تسليحه وتزويده بالمعدات والتدريب اللازمين على مدى عقدين من الزمن. ونفهم من ذلك الخبر أن إفتقار الجيش الافغاني الذي صنعته الآلة العسكرية الامريكية من العقيدة العسكرية الوطنية والموروثة عبر العقود ولذلك لم يصمد بطبيعة الحال أم طالبان وهي قوات غير نظامية. أما الجيش السوداني فهو مختلف تماما عن التجربة الافغانية فعقيدته العسكرية ظلت قوية متماسكة ومستمدة من الروح القومية للشعب السوداني، و ظلت محورا وطنيا للتماسك القومي برغم من الاختراقات الحزبية عبر العقود السابقة، و التي كانت سببا للانقلابات العسكرية بإيعاز من الاحزاب السياسية، ولكن بعد ثورة ديسمبر عاد الجيش الوطني لسيرته الاولى جيش الشعب السوداني والمدافع عن سيادته وعزته و كرامته و حرصه على الانتقال الديمقراطي و تحقيق الارادة الشعبية في انتخابات عامة ديمقراطية وشفافة تختار من بنيها ليصلح ما أفسدته الاحزاب السياسية وصراعها وتشاكسها حول السلطة والثروة.
الشعب السوداني الان يريد إستقرار و أمن و طمأنينة، الشعب يريد مياة نظيفة وغذاء صحي وتعليم لابنائه و علاج مجاني، الشعب يريد حرية وديمقراطية وسلام، الشعب يريد ان يختار من يمثله في برلمان منتخب لاجازة دستوره من خلال الجمعية التأسيسية التي تختار تشريعاتها وقوانينها وفق مايعتقده الشعب ويؤمن به وليس ما تمليه احزاب أقلية او وفق ما تشتهيه دول ومحاور إقليمية تهدف لتحقيق مصالحها الخاصة و اطماعها في ارض السودان و تستغل ثرواته وموارده الطبيعية و موقعه الجغرافي.
وفي الخاتمة نؤكد على أهمية وجود الجيش السوداني كمحور للتماسك القومي و أهمية دوره في عملية الانتقال الديمقراطي وفق الوثيقة الدستورية، بالرغم من ثقوبها وخروقاتها لعشرات المرات من احزاب قوى الحرية والتغيير (قحت) التى تآمرت على نفسها بإنقساماتها المتكررة داخل تجمع المهنيين وداخل احزابها وبقية مكوناتها. ومن جانب ثاني يتفق الشعب السوداني على الفشل الذريع لحكومة الدكتور عبدالله حمدوك الاولى والثانية، وتعريض أمن الوطن وسلامته للخطر، في ظل تدهور إقتصادي مريع و تضخم جامح لم يحدث في تاريخ السودان، ومن جانب ثالث وحتى تاريخ هذا المقال خلو منصب رئيس قضاء السودان ولم يتم تشكيل مجلس للقضاء العالي، وكذلك خلو منصب رئيس المحكمة الدستورية وعضويتها، بالاضافة لغياب مجلس أعلى للنيابة العامة و نائب عام منتخب، في ظل تغييب متعمد من الاحزاب السياسية لتكوين المجلس التشريعي الانتقالي، فلاوضاع الان مأزومة والحدود ملتهبة بإحتمالات حروب و تكاثر بؤر للتوتر والانفلات الامني الداخلي و إختراقات أجنبية وسط بعض القوى السياسية والشعب ينتظر من يصلح الحال ويدعو ليلا ونهارا ، جهرا وسرا : اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين، اللهم يا حنان يا منان، يا قديم الإحسان، يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها، يا أرحم الراحمين، ويا ظهر اللاجئين، ويا جار المستجيرين، يا أمان الخائفين، يا غياث المستغيثين، يا كاشف الضر، ويا دافع البلوى، نسألك أن تكشف عنا من البلاء ما نعلم، وما لا نعلم، وما أنت به أعلم، إنك أنت الأعز الأكرم. والله المستعان لإصلاح حال البلاد والعباد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى