النيقرز مُنْتَج سِياسِي أمني بإمتياز .. وليس (ظاهرة إجتماعية)..

عمر منصور فضل
omarmnsr@Yahoo.com

(المركز) .. هذا المصطلح الأُخطبوطي الهُلامِي العتيق الذي يعني عند البعض مدلولاً جُغرافِياً جِهَوِيَّاً وعند البعض معنىً عِرقياً ، ومفهوماً آخر عند آخرين ، أشِرتُ أنا منذ أمد ولا أزال ، و في اكثر من مكان ، بأنَّ هذه المعاني جميعها قد حدث لها الكثير من التميُّع والتَّرهُّل والتحوُّر فصار المركز في الواقع مصطلحاً أخلاقياً أكثر مما هو سياسي فمثل ما يقال اليوم بأنَّ (الكَوزَنة – الكيزان) لم يَعُد مدلولاً يُطلَق بالضرورة على عضوية تلك الطائفة الدينية أو ذلك الحزب السياسي وإنما مدلول يشمل (سلوك) كل الذين شاركوهم (الفعل) و(المنهَج) من الحلفاء والمتواطئين والمُستنفعين بحيث يُكْتَبوا جميعُهم عند الشَّعب كيزاناً ولو وُجِدوا مُتَعِلِّقين بأستار الثورة..

فأيضاً إن المركز ، على ذات المنوال ، قد تدحرج وتحوّر ليكون مدلولاً (أخلاقياّ) يشمل كل الأفراد الذين جمعتهم -تجمعهم- أساليب التسلُّق والوصولية والإنتهازية وتواطؤ المصالح في (مركز السلطة) بغضِّ النظر عن الجهات الجغرافية أو الأعراق التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد .. فهو (مركز المصالح) وكل المتضررين من هؤلاء هُمُ (الهامش) ..
أيضاً بغضِّ النظر عن جغرافِيَّاتهم وأعراقهم..

وعلى ذلك نشير إلى أنَّ القبيلة نفسها التي هي المحضن الإجتماعي ومصدر تفاصيل هوية الفرد وركيزة إنتمائه العرقي…إلخ تحوَّلت مُؤخَّراً عند الكثيرين إلى مُجرَّد (مُتَّكآت مرحَلية) للذين تلفظهم المواعين السياسية نتيجة خُبثِهم أو تعجُّلِهم أو عدم صبرهم على الضوبط التنظيمية ، فيلجأون إلى القبيلة بإعتبارها حاضنة مفتوحة الأبواب على الدوام ، من باب (مافي ولد بيودُّوهو الكوشة) فالشخص الحرامي، الكذَّاب، المريض المنبوذ…إلخ هو (إبن أسرته) ومُرحَّب به عند أهله كيفما كان..

والقبيلة ، بل والقبَلِية نفسها ، في واقعها الطبيعي ليس عيباً ولا تخلُّفاً ، ولا إرتداداً إلى الوراء ، فالقبيلة هي الأسرة الصغيرة لكل فرد أيّ كان وزنه ومكانته ، وأثبتها اللَّه تعالي كآية من آياته ومظهر من مظاهر حكمته (إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُم شعوباً وقبائل) .. فاللَّهُ لم يقُل خلقناكم أحزاباً ودُوَلاً ، فالقبائل والشعوب (المجتمعات) هي الأساس ، لذلك ليس عاراً ولا مَنْقَصة الترميز بالقبيلة ، لكن العيب والعار هو تلك الحربائية السياسية بإتخاذ القبيلة سُلَّماً لمراقي السياسة والمآرب المُجاورة..
وتكون دعاوِي القبيلة والقبلِية عند بعض الناس شعاراً إنتقائياً إنتفاعِياً في مضمونه بحيت يكون تخلُّفاً ورجعية وشيئاً قبيحاً حين تكون (القومية) ، (الوطن) ، (الإنتماء للجميع) هي ما تتطلَّبه مصالحه المرحَلية ، ثُمَّ يرى القبيلة فخراً وإعتزازاً وعِزَّاً حين يجد إنَّ القبيلة وحدها هي من تقِيه وتحميه من سهام وسيوف السياسة..

تلك هي الإنتهازية البغيضة في دعاوي القبيلة وليست القبيلة والقبلية في نفسها..
فهي فطرة حميدة كما أوردنا..

هذه المقدمة المُطوَّلة ألجأنا إليها ما أثير مُؤخَّراً من محاولات تجيير وتحبير وتبرير لإلصاق ظاهرة النيقرز (الخرطومية المنشأ والمنشط) بترميز (إجتماعي) والقول بأنَّها إفراز مجتمعات المناطق المُحْترِبة والمُحترِقة .. تحديداً جنوب السودان ، جبال النُّوبة ، النيل الأزرق ، دارفور..

وعلى عكس ذلك التحليل والتبرير نعتقد أنَّ النيقرز ليست نتاجاً لأسباب وظروف الحرب وإفرازاتها مثل التفكك الأسري والتشرُّد والفاقد التربوي…إلخ حيث أن أنَّ الأخيرة هذه بالفعل إفرازات الحرب ولكنها بحال من الأحوال ليست هي من خلقت ظاهرة *النيقرز*..

فإفرازات الحرب تلك كانت قد إنتجت شريحة إجتماعية معروفة *بـ(الشَّمَّاشَة)* -الصحيح *الشَّمَّاسة* من الشَّمس- و هُم مجرَّد مُتشَرَّدين عديمي مأوى من الأطفال والشباب المُتسولِّين المساكين المسالمين ، لا علاقة لهم بالعنف ولا الإعتداء على أحد..

والمعلوم والمفروغ منه أن أبناء هذه المناطق المحتربة تحديداً (النوبة – الفور- أغلب قبائل النيل الأزرق) هُم من أكثر قومِيات السودان زهداً وعفافاً ، وبُعداً عن (حق النَّاس) وقتل النفس…إلخ..

وحتَّى مظاهر السلب والنَّهب التي طرأت في دارفور مثلاً مع إندلاع الحروب فيها نادراً ما يكون مرتكبيها من الفور وإنَّما بعض القبائل الدخيلة على السودان أو المُتداخلة مع السودان..
وكذلك في جبال النوبة حيث ينعدم تماماً قيام النوبة بعمليات نهب أو قطع طُرق اللَّهُمَّ إلا إنتقاماً من مظلمة محددة أو ردَّاً على عملية إبتدار من جهة ما ، لكن غير موجود مطلقاً كسلوك إجتماعي معتاد أو مُرَحَّب به..

لذلك فإنَّ إرجاع ظاهرة *النيقرز* إلى أنه سلوك نابع من هذه (المجتمعات) ولو بدعوى إنَّها نتاج ظروف حياتية محيطة بهم فهو تحليل وتبرير مُخِل ومعيب جِدَّاً ومُسئ ومُضلِّل..

صحيح أنَّ الحرب في هذه المناطق أفرزت تفكُّك أسري، فاقد تربوي، تُشرُّد أطفال…إلخ، لكن هذه بأي حال لم تُلجِئ هؤلاء إلى جرائم قطع الطُرقُ والجريمة المُنظمَّة كوسيلة لكسب عيشهم..

ويأتي هذا أحياناً مِمَّن يُجَنِّدونهم لتغييب الحقيقة و(جر) الأنظار والإنتباه إلى الوجهة الأخرى..

ومثالهم أيضاً أولئك الذين يوهمون الناس بأنَّهم أجروا دراسات ومسوحات إستندوا عليها..

فقد قابلتُ كثيراً جِدَّاً مِمَّا قيل ومن قالوا عن قيامهم بدراسات ومسوحات ميدانية لظاهرة *النيقرز* هذه ويشيعون في مجالس مجتمعاتهم ليوهموهم بأنَّهم كانو مهمومين بشأن مجتمعهم حتى من خلال وظائفهم الرسمية بينما بعضهم بالإسم كانو جزءاً أصيلاً و(نافذاً) في أجهزة القهر والإذلال لهذه المجتمعات نفسها تحديداً مثل شرطة ونيابات النظام العام سيئ الذِّكر ، الذين كان بعض أفرادها متخصصين (كامل التخصص والإحتراف) في مداهمة وضبط أشخاص بالإسم في حملات كشَّات (ستَّات المريسة) مثلاً بحكم معرفتهم (الإجتماعية) بأهليهم، دون أن يقولو يومها أنَّ هؤلاء أجبرتههم إلى هذا ظروف (إجتماعية) بأسباب الحرب وفقدان العائل والسند…إلخ ، بل كان القهر والإهانة وإهدار الكرامة والإذلال بشكل مُتكرِّر..

وحين إرادو أو أُريدَ لهم خلق تبرير وغطاء تبريري وطلاء ودعاية تسويقية لظاهرة *النيقرز* قاموا بتلك المسوحات الميدانية الفجَّة ليقرِّروا و(يُقرُّوا) على عجل بأنَّ (ناس القبائل ديل) .. و(ذلك الهامش) هُم مُكوِّن *النيقرز* ، مُبرِّرين ذلك بالظروف الماثلة للعيان والتي من الطبيعي أن يصدِّقها وينخدع بها كل شخص كدواعي ومصوغات منطقية بينما هي في الواقع غطاء سميك لحجب الحقيقة..
وقدَّموا بذلك طبقاً من ذهب لـ(أسيادهم) وأولياء نعمتهم ولمن أوحوا لهم بذلك الدور الخبيث بأنَّه (شهدَ شاهدٌ من أهلها) .. و(أثبتَ باحثٌ من أهلهم) .. بأنَّهم هم من يفعلون ذلك من طوعهم .. ولديهم أسبابهم (الإجتماعية) التي أجبرتهم..

و في نفس الوقت يبدو هؤلاء أيضاً بمظهر الغيورين علي أهلهم بـ(أنَّنا دافعنا عن كونكم *نيقرز* من طوعكم ولكنَّكم مجبورين بظروف مش ساكت) ، وهناك ظروف (إجتماعية) ضاغطة هي التي ألجأتكم إلى ذلك ونحن سنقاتل لإزالة هذه الظروف (الإجتماعية)..

إنَّهم (نقَّاشين) و(سمكرجِيَّة) السياسة الجاهزون دائماً لـ(التدخُّل السريع) لإزالة آثار الجرائم و(تصليح) ما يسببه او (يتورَّط) فيه الكِبار..

إن خطورة هذه الأفعال أكثر من كونها تضليلاً ترميزياً لحقيقة المشكلات فهو تغييب للضحايا والمجني عليهم أنفسهم ليتقمَّصُوا جُوراً وزُوراً دور الجُناة والمجُرمين..

•• لكن الجانب الأخطر والأخطَل والأخرق في تبرير وتحليل ظاهرة *النيقرز* بتلك الظروف (الإجتماعية) هو إنه يفرغ الظاهرة ويعزلها من أهم وأخطر مفصل فيها وهي حقيقة أنَّ *النيقرز* ذراع وأداة ومُنْتَج من أذرع وأدوات ومُنْتحات أجهزة الكيزان الخبيثة لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد:

1-إستغلال (أغلبية اللون) في أفراد هذه المجموعات لوصف ووصم الزنوج والغرَّابة بأنَّهم عدوانيون وأصحاب نزعة إجرامية وفوضوية ..(بياناً بالعمل)..

2- إهلاك وإفساد هذا الكم الهائل من شباب الهامش وتدميرهم نفسياً وإجتماعياً، مع إرجاع جريمة و(ذنب) هذا الإفساد والتدمير إلى ظروفهم (الإجتماعية) الخاصة وليس إلى المجرمين الحقيقيين العابثين بمصائر البشر..

3- قطع الطريق أمام تنامي أيِّ كتلة بشرية واعية وراشدة من شأنها خلخلة موازنات السيطرة على شئون الخرطوم..

4- خلق الفوضى والسيولة الأمنية والرُّعب والململة الإجتماعية ، وإحراج الحكومة الإنتقالية ووصمها بالفشل ، بإستغلال الظاهرة (المصنوعة أصلاً)..

•• وبذلك فإنَّه لا يمكن البتَّة أن تُصَنَّف ظاهرة *النيقرز* في تبسيط وإبتسار بأنَّها (قضية إجتماعية) فقط، بينما هي في حقيقتها قضية أمنية وسياسية من الدرجة الأولى .. وإلا فلينظرِ الإنسان كم هو عُمُر الحرب في جبال النوبة وجنوب السودان تحديداً (التي منها غالب عناصر النيقرز)؟!؟!..

الحرب عُمُرها في هذه المناطق حوالي 33 عاماً و يزيد (منذ أواخر أيام الصادق المهدي) ، فلماذا برز *النيقرز* كظاهرة وقضية فقط في حدود عام 2017-2018..؟!؟..

قبلها -كما ذكرنا أعلاه- كانت نتائج الحرب شريحة إجتماعية معروفة *بـ(الشَّمَّاشَة)* وهُم مجرَّد أطفال وشباب عديمي مأوى، مُتسولِّين، مساكين، مسالمين، لا علاقة لهم بالعنف والإعتداءات على الناس..💫

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى