السودان ووضع العربة أمام الحصان
الناظر إلى ما يجري في واقع بلادنا اليوم، لن يحتاج إلى عدسة مكبِرة حتى يكتشف خطورة مآلاته الكارثية، وأن الأزمة الخانقة والبادية للعيان، والمتمكنة من كل تفاصيل حياة المواطن والوطن، السياسية والإقتصادية والاجتماعية والأمنية، يمكن أن تهوي بنا جميعا، رعية وبلدا، إلى أتون محرقة لا تُبْقي وَلا تَذَرُ.
نحن نتبنى هذا التشخيص، وتناولناه بالتفصيل في عدة مقالات سابقة. أما الأصوات القلقة والحادبة والمشفقة على الوطن وتخشى انهياره وتحوله إلى ساحة إقتتال أهلي، فلم تخفت أبدا، وظلت تكرر القول بأن هذا الوضع الكارثي يتطلب من كل القوى السياسية والمدنية أن تُنجز فعلا وليس رد فعل، فعلا لا يكتفي ولا ينحصر في مجرد التعليق وإبداء الملاحظات على مواقف الآخرين، فعلا استباقيا لما يفترض أن تتسلح به جماهير هذه القوى المدنية والسياسية بهدف تغيير هذا الواقع تحت مظلة الحرية والسلام والعدالة.
وفي هذا الإتجاه، إتجاه الفعل وليس رد الفعل، أعتقد أن لجان المقاومة قد قطعت شوطا معتبرا بتبنيها وإشهارها شعار الاحتجاج السلمي في الشوارع، ثم بتوافق معظمها على مواثيق بديل ضمنتها رؤاها حول المخرج. وأعتقد أن المطلوب الآن هو تكامل هذا الجهد مع ما يمكن أن تتقدم به القوى السياسية والمدنية، حتى يتبدى ذلك التكامل فعلا ملموسا ننتصر به لغايات ومبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، والمبادرة هنا من الجميع وليس لجان المقاومة وحدها.
ولكن، وللأسف الشديد، ظل الكثيرون منا تسيطر عليهم حالة رد الفعل هذه وآثارها السالبة، فينجرون إلى مناقشات وتحليلات حول أسماء شخصيات ربما تتولى رئاسة وزارة الحكومة الانتقالية، وهي أسماء ترشحها الأسافير، إما نتاج أفكار وأحلام رغائبية أو هي مجرد بالونات إختبار من جهات بعينها، وذلك دون أن ينتبه هؤلاء المستسلمون لحالة رد الفعل إلى أن هذه الترشيحات هي بمثابة إبتذال للأزمة بإختصارها في كرسي السلطة دون مس جوهرها المتمثل في تداعيات وإجراءات إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2021، وأنها بمثابة وضع العربة أمام الحصان لأن الأولوية المطلوبة الآن ليس اسم رئيس الوزراء المرتقب وإنما الإجابة على سؤالين رئيسيين، أولهما كيف سيتم إختياره ومن سيقوم بذلك؟
وثانيهما ما هو البرنامج الذي ستنفذه حكومته؟ وبالطبع، فإن السؤالين لا يحتملان سوى إجابة واحدة وهي أن المطلوب هو رئيس وزراء يتم إختياره بواسطة آلية متوافق عليها من القوى السياسية، بما في ذلك الحركات المسلحة، والقوى المدنية ولجان المقاومة، لينفذ برنامج الثورة المضمن في وثيقة دستورية جديدة، أيضا متوافق عليها من قبل هذه القوى. كما أن أي حديث عن إختيار رئيس للوزراء قبل إتفاق سياسي أو وثيقة دستورية، لهو استهتار بالثورة وتقليل من قيمة تضحية شهدائها، وعمليا لن يحقق ذلك أي استقرار وستزداد الأزمة إختناقا. أما من أراد أن يلعنه شعبه حتى القبر فليقبل بذلك.
بحديثنا هذا، والذي رددناه كثيرا في مقالات سابق، نعني أن الأولوية القصوى الآن هي شروع القوى السياسية والمدنية ولجان المقاومة للتوحد في جبهة مدنية واسعة تتولى زمام الأمور وتوجيه دفة قيادة الفترة الانتقالية نحو مسار التحول المدني الديمقراطي، والخروج بالسودان من النفق المظلم.
صحيح، قد يحاجج البعض بصعوبة، إن لم يكن استحالة، تحقيق التوافق والتوحد المنشود بين القوى السياسية والمدنية ولجان المقاومة، بسبب ما بينها من خلافات وتناقضات واسعة. ولكني أرى، ومعي الكثيرون، عكس ذلك، بمعنى أن هناك إمكانية كبيرة لطي صفحة هذه الخلافات والتناقضات، ولو مؤقتا، وتحقيق التوافق والتوحد المنشودين.
فأولا، تجاربنا السياسية منذ الاستقلال تعضد خيار التوحد وتقول إنه مهما كان حجم الخلافات والتناقضات بين القوى الاجتماعية والسياسية، فإن إمكانية توافقها في عمل جبهوي مشترك واردة ما دامت الأهداف واحدة.
وإذا قرأنا في عناوين أهداف كل قوى الثورة فسنجدها تتحدث عن تصفية دولة الانقاذ وإزالة تمكينها، والمحاسبة القضائية لكل من ارتكب جرما ضد الوطن والمواطنين، بما في ذلك جرائم قتل المتظاهرين السلميين وقضايا الفساد، تحقيق التحول الديمقراطي والإلتزام بحقوق الإنسان، محاربة العنصرية، إستكمال السلام وإنهاء الحرب والنزاعات، تنفيذ برنامج اقتصادي اسعافي جوهره فك الضائقة المعيشية في البلاد، فتح الطريق لإعادة بناء الدولة السودانية على أساس قومي لا مركزي يراعي التعدد الإثني والديني والثقافي والنوعي، ويلتزم العدل في اقتسام السلطة والثروة بين كل مكونات البلاد الإثنية والجهوية، مما يحقق إقامة سودان ديمقراطي موحد بإرادة شعبه الطوعية.
وأعتقد أن هذه المقاصد المشتركة بين كل قوى الثورة يمكن أن تكون عامل توحيد لهذه القوى في جبهة مدنية واسعة وبرضا الجميع، إذا ما سخّرت هذه القوى رؤاها وإرادتها لصالح الوطن.
ثم ثانيا، ماذا لو انخرطت قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة والقوى السياسية والحركات المسلحة والقوى المدنية في حوار للخروج بإعلان مبادئ متوافق عليه، مستمد من أطروحات هذه القوى بما في ذلك ميثاق تأسيس سلطة الشعب والميثاق الثوري لسلطة الشعب، وغيرهما من المواثيق المقدمة من لجان المقاومة؟
وفي هذا الصدد أقترح أن تبادر لجان المقاومة بالدعوى لهذا الحوار، وإذا تطلب الأمر، يمكن أن تتولى الآلية الثلاثية، اليونيتامس والاتحاد الأفريقي والإيقاد، دور الميسر والمسهل، على أن تتلقى هذه الآلية دعما مباشرا وملموسا من الأمم المتحدة/ مجلس الأمن، والإتحاد الأوروبي. وبالطبع، الدعم المقصود هنا هو الدعم السياسي وليس المادي.
إن التوافق على إعلان المبادئ سيفتح الباب للتوافق، أيضا بتسهيل وتيسير من الآلية الثلاثية، على وثيقة دستورية جديدة يُختار بموجبها رئيس الوزراء وتُشكل مؤسسات الفترة الانتقالية من كفاءات وطنية وبدون محاصصات حزبية، على أن تكون مدة الفترة الانتقالية عامين تبدأ من تاريخ التوقيع على الوثيقة، ويُعقد خلالها المؤتمر الدستوري وتُجرى في نهايتها الانتخابات.
د. الشفيع خضر سعيد
A fascinating discussion is worth comment. I do think that you ought to publish more about this issue, it may not be a taboo matter but typically folks dont speak about such topics. To the next! Cheers!!