أخر الأخبار

دروب الحقيقة جنوب كردفان.. الإدارة الأهلية هل تعبر عن المجتمع، أم تمثل السلطة؟

(1)

ليس كل من لبس جلابية وملفحة، وأسمى نفسه أو أسمته السلطة (عمدة) أو( مك) أو (شيخ) أو (ناظر) يستحق المنصب.
فهناك رجال في تاريخ السودان تولوا مناصب في هرم الإدارة الأهلية أضافوا لها هيبة وعظمة ووقار، واكسبوها سلطة إجتماعية أقوى من القانون، واللوائح المكتوبة، حفظت المجتمع ورعت شؤونه وعاداته وتقاليده وموروثاته، وكانت أحكامهم نافذه، تسري على الجميع ويحترمها الكل برضى، ويقدسها حتى اللصوص، فرجل الإدارة الأهلية المؤهل، يؤثر بسلطته وبحكمته وبشجاعته وبكرمه وجوده، ويتعامل مع كل موقف بما يناسبه، وتبوأ آخرون مناصب في سلم الإدارة الأهلية ، (بعد الإنقاذ) كانوا وبالا على المجتمع، مسخ مشوه، أقرب (للاعشاب البروس أو المتكبة وسط الزراعة ) أساءت لتاريخ الإدارة الأهلية، وحكمتها المعهودة وثقافتها في حلحلة أعقد المشكلات، وفق أعراف المجتمع وتقاليده الراسخة ، ومع الأسف مضى رجال الإدارة الذين يعرفون أهمية المنصب في الضبط الإجتماعي، واستقرار المجتمع، وإنفاذ القانون، وهم اليوم قلة قليلة يشار إليهم في المناسبات العصيبة، وسط الغثاء، فما أحوج جنوب كردفان لهم في هذا الزمان، بعضهم غادر الدنيا وترك جليل الأعمال والمواقف المضيئة، والسيرة العطرة وتستحضر الذاكرة في التاريخ القريب الناظر إدريس عبدالله، الذي كان ضمن قافلة المحافظ برق حين وقعت في كمين التمرد في طريق تلودي، فهرب المحافظ ورهطه، وبقى الناظر وحده ينتظر الموت، وحين سئل لماذا لم تهرب؟ أجابهم بكلمات جادة لا تقبل التأويل( الموت واحد وكان جريت أمشي وين من كلام الليريات) فبربكم من الذي كان يستحق أن يكون محافظا، برق الذي تولى أم الناظر إدريس؟ ومن أعمدة الإدارة الأهلية التي حفظت استقرار المجتمع، مكوك تقلي حتى بعد بعد إنتهاء حكم المملكة على يد الاستعمار ، و العمدة الزيبق و العمدة قادم أحمد أبوخرس والمك أرنو، والعمدة حسين بابكر، والعمدة النور أحمد جيلي، وهؤلاء لم يكونوا عمدا أو مكوكا لقبائلهم، بل كانوا مسؤولين عن أمن كل الناس، في دوائر إختصاصاتهم، ولكل واحد منهم مآثر متفردة، وفضائل تستحق أن تروى للتاريخ والأجيال المعاصرة ، فالعباسية تقلي اليوم هي مجتمع يضم مختلف الأعراق والأجناس وكادقلي مجتمع، ورشاد مجتمع، والليري مجتمع، وتلودي مجتمع، والدلنج مجتمع، وكلها قبائل ، أدار شئونها رجال أفذاذ وصهرتها الحياة ومعتركاتها، وقبلت التعايش السلمي، برحابة صدر، وسعة أفق واستوعبت التنوع، وأدار زعاماتها الجميع، فصارت مدن ملء لسمع والبصر يعرفها كل العالم، فهل سيذكرها التاريخ والناس، لو أنها أنكفأت على ذاتها، وتحوصلت في إطارها القبلي الضيق المحدود ؟

(2)

نحكي اليوم قصة رواها صاحبها أو بطلها قبل وفاته، للإذاعة المحلية بأبوجبيهة، فيها الكثير من الدروس والعبر وحكمة رجال الادارة الأهلية، الذين ينتظرهم المجتمع، لمعالجة أزماته، وحفظ نسيجه من التمزق والضياع.
كان العمدة صالح بلل، مسافرا لشأنه باللوري، وهو الوسيلة الوحيدة المتاحة للسفر في ذلك التاريخ، لكل الناس، وفي الطريق الوعر الذي يعرفه الجميع كان اللورى يخج الركاب يمنة ويسرى، فعفص أحدهم آخر دون أن يقصد، فقام الرجل (المعفوص) بسب قبيلة (العافص) وكادت أن تنشب معركة بالأيدي، وهنا تدخل العمدة صالح بلل، وحاول معالجة الأمر ، وأمام أصرار وتعنت الرجل الذي أساء وشتم القبيلة ، بدل أن يشتم الرجل الذي وطأه دون أن يقصد، مارس سلطاته، وذكرهما العمدة صالح ، أنه رئيس محكمة ريفية، ووقع حكما على الشاتم، ب (25) جنيها غرامة 6 شهور سجنا، فسخر الرجل من العمدة، الذي مارس سلطته المخولة له قانونا، على ظهر لوري، وحين وصلوا مدينة رشاد. وفي الموقف طلب العمدة من رجل شرطة، بعد أن عرفه بنفسه، أن يقبض على المحكوم، ويأخذه بصحبته إلى مكتب القاضي، وامتثل رجل الشرطة، لأمر العمدة، لأنه يعرف القانون ويعرف واجباته كاملة. وساق
المجرم حتى محكمة القاضي، ومن حسن حظ الحقيقة ، كانت محكمة القاضي عامرة، فدخل العمدة واستاذن من القاضي نصر الشاري منديل، من منطقة الدلنج، التي انجبت للسودان العشرات من القضاة منهم،القاضي الأشهر دلدوم الختيم أشقر، وعرف العمدة القاضي بشخصه، وحكى قصة الحكم للمحكمة، فما كان من القاضي إلا قال له: إن شاء كل العمد زيك، و أخذ ورقة ، ودون فيها الحيثيات وطلب من الشرطة أخذ المجرم للسجن، وخرج العمدة صالح بلل ليلحق باللوري مواصلا سفره وسط دهشة الجميع.

(3)

هكذا كان رجل الإدارة الأهلية ، يعطي المنصب حقه، ويتحمل مسؤوليته القانونية والأخلاقية، تجاه أمن وسلامة واستقرار المجتمع، ولا ينتظر أن تطلب منه السلطة ذلك، لأنه مسؤول لدى المجتمع وليس لدى السلطة، يحاسبه ضميره أولا وأخلاقه ثانيا، ويستشعر مسؤوليته نحو أهله ومجتمعه، ويخشى الله وأحكام التاريخ والرأي العام، ولاينتظر (نوالا) من سلطة، أو توجيها من حزب أو معتمد أو لجنة أمن، يمارس دوره من منطلق ذاتي فالمنصب تكليف وعبء، وليس تشريف ، أما رجال الإدارة الأهلية الذين تعينهم السلطة_ أي سلطة_ سيكونون أسرى لها، وموظفين لديها، يأتمرون بأمرها، ويتحركون بمشيئتها، ومن هنا جاءت كارثة تسييس الإدارة الأهلية في السودان، دجنت القبائل والعشائر والبيوتات الكبيرة، بالزعامات المصنوعة،(والظروف الخفية) ولذلك شهدنا زعامات، تستثمر في خطاب الكراهية والتفرقة والعداوة، و تتفرج على خراب وحروب أهلها، إن لم تكن هى نفسها من دعاة وأمراء الحرب ومثيري الفتن

(4)

تحتاج جنوب كردفان إلى نماذج حقيقية، تشبه أولئك العظماء مدركة لدورها، صاحبة ضمير يقظ، وأفق واسع، وسريرة مبصرة، وإحساس عميق بالمسؤولية، وواجباتها، تترفع على الصغائر، كل الناس عندها سواء، لا تحابي و لا تخشى في الحق لومة لائم، ولا تستجيب إلا للحق والحقيقة والمصلحة العامة. تأملوا تجربة المك كبانقو مع الاستعمار البريطاني، حين فدى أهله بنفسه ودخل السجن حتى ينجو أهله وما يدخرونه من قوت، وقصة كبانقو تستحق أن تدرس للتلاميذ والطلاب في المدارس عن الحكمة والإيثار وفن القيادة وحسن التصرف، وحتى لا ينهض في وجهي المبررون، ويسوقون أسباب ضعف الادارات الأهلية، وقلة حيلتهم ونقص معيناتهم، وتعقد مشكلاتهم، أقول أعرف كل ذلك وأكثر ، ولكن ما بال الإدارات الأهلية ساكنة خامدة ، لا يسمع لها ركزا، ولا نشاطا ولامبادرات إلا بأمر الحكومة، والحكومات نفسها ومؤسساتها بلا إرادة، تحتاج من يقدم لها المبادرات ومشروعات النشاط الإجتماعي، ويعينها، ونسيت أنها جعلت من الإدارات الأهلية موظفين لديها ، تطلبهم حين تريد، وتلزمهم بمواقفها، حتى التي تتعارض مع مصلحة مجتمعاتهم وقبائلهم ولاتقدم لهم أي معينات لتروضهم، فهى التي أختارتهم، وهى التي تعزلهم إذا شاءت.رجال الإدارة الأهلية الذين خلدهم التاريخ، ربطوا أنفسهم وقبائلهم ببعضها، عبر وشائج الدم والمصاهرة والصداقات والمواثيق، والأحلاف، فكونوا مجتمعا متجانسا، ومترابطا ومتشاركا ومتعاونا، يعلو على الهنات الصغيرة والأخطاء العابرة، والمشاكل المألوفة في الحياة، بما فيها حوادث القتل والموت، لأن مسيرة الحياة لا تتوقف، وشكلوا مظلة لمجتمعاتهم، تهابها السلطة، وتحترمها، وتقدر قراراتها
رحم الله القائل (أعرف الحق تعرف رجاله)

أحمد مختار البيت
15يوليو 2022.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى